لم تكن مايكروسوفت مجرد شركة، بل كانت رحلة من الطموح والشراكة والصراع المستمر لإعادة تعريف الحوسبة. بدأت القصة في عام 1975، عندما كان عالمان شابان، بيل جيتس وبول ألين، يشاركان حلمًا واحدًا: وضع جهاز كمبيوتر على كل مكتب وفي كل منزل. كان هذا الحلم يبدو جنونيًا في عصر كانت فيه أجهزة الكمبيوتر ضخمة ومكلفة وتقتصر على المؤسسات الكبرى.
كانت الانطلاقة بعد أن رأى ألين مقالاً عن أول جهاز كمبيوتر شخصي، Altair 8800. أدرك الشابان أن المستقبل يكمن في البرمجيات التي تشغل هذه الأجهزة. اتصل جيتس بشركة MITS، التي صنعت Altair، وادعى أنه وفريقه يعملون على مترجم لغة BASIC للجهاز. لم يكن ذلك صحيحًا تمامًا، لكن إصرار جيتس وثقته أقنعت الشركة. في غضون أسابيع، طوروا أول إصدار من Altair BASIC، وهو ما كان بمثابة حجر الزاوية لمايكروسوفت.

في البداية، كان جيتس وألين يعملان من مرآب صغير في ألباكيركي بولاية نيو مكسيكو، لكن الرؤية كانت أكبر من المكان. في عام 1979، انتقلت الشركة إلى واشنطن. جاءت الفرصة الكبرى في عام 1980، عندما تواصلت شركة IBM مع مايكروسوفت للحصول على نظام تشغيل لجهاز الكمبيوتر الشخصي الجديد الخاص بها. لم يكن لدى مايكروسوفت نظام تشغيل خاص بها، لكن جيتس أظهر ذكاءً تجاريًا فذًا. اشترى نظامًا يسمى QDOS (نظام تشغيل قرص سريع وقذر) من شركة صغيرة مقابل 50,000 دولار فقط، وأعاد تسميته إلى MS-DOS (نظام تشغيل القرص من مايكروسوفت). كان هذا القرار بمثابة الخطوة التي غيرت مسار الشركة إلى الأبد. مايكروسوفت لم تبيع نظام التشغيل لـ IBM بشكل حصري، بل رخصته لها، واحتفظت بحق ترخيصه لشركات أخرى، مما سمح لها بالسيطرة على سوق أجهزة الكمبيوتر المتوافقة مع IBM.
عصر ويندوز والصراعات الكبرى
مع إطلاق ويندوز في عام 1985، بدأت مايكروسوفت في ترسيخ هيمنتها. كان ويندوز يقدم واجهة رسومية سهلة الاستخدام، مما جعله منافساً قوياً لأنظمة أخرى مثل أبل ماكنتوش. تطور ويندوز سريعًا، ومع كل إصدار جديد (3.1، 95، 98)، أصبحت مايكروسوفت القوة المهيمنة على سوق أنظمة التشغيل.
لكن هذه الهيمنة جلبت معها تحديات قانونية ضخمة. كان الصراع الأبرز في تاريخ الشركة هو قضية مكافحة الاحتكار ضد وزارة العدل الأمريكية.
الصراع مع وزارة العدل الأمريكية (1998)
كانت القضية تدور حول اتهام مايكروسوفت باستغلال قوتها الاحتكارية في سوق أنظمة التشغيل. كان التهمة الأساسية هي دمج متصفحها إنترنت إكسبلورر (Internet Explorer) مع نظام ويندوز، مما جعل من الصعب على المتصفحات المنافسة مثل نتسكيب نافيجيتور (Netscape Navigator) الحصول على حصة في السوق. رأت الحكومة الأمريكية أن هذا التصرف كان يهدف إلى القضاء على المنافسة.
استمرت المحاكمة لعدة أشهر، وشهدت إدانات قضائية قاسية ضد مايكروسوفت. في عام 2000، أمرت المحكمة بتقسيم الشركة إلى قسمين: قسم لأنظمة التشغيل وقسم للبرمجيات. كان هذا الحكم ضربة قوية، لكن مايكروسوفت استأنفت القرار. في النهاية، توصل الطرفان إلى تسوية في عام 2001. لم يتم تقسيم الشركة، لكنها وافقت على سلسلة من القيود، مثل عدم إجبار مصنعي أجهزة الكمبيوتر على تثبيت برمجيات مايكروسوفت.
صراعات أخرى: جوجل وأبل
لم تقتصر صراعات مايكروسوفت على الحكومة. كانت هناك منافسة حادة مع شركات أخرى. في مجال البحث، لم تتمكن مايكروسوفت من مجاراة هيمنة جوجل، رغم محاولاتها المتكررة. في سوق الهواتف الذكية، فشلت مايكروسوفت في اللحاق بـ آبل (iOS) وجوجل (Android)، رغم استثماراتها في نظام التشغيل ويندوز فون.
خلاصة: من النزاع إلى الابتكار
قصة مايكروسوفت هي قصة نجاح تجاري مبهر، لكنها أيضًا قصة عن التحديات القانونية والمنافسة الشرسة. تعلمت الشركة من هذه التجارب، وأعادت صياغة استراتيجيتها. اليوم، تحت قيادة ساتيا ناديلا، تركز مايكروسوفت على الخدمات السحابية (Azure)، والألعاب (Xbox)، والأجهزة (Surface)، وغيرها من المجالات التي تتطلب الابتكار بدلاً من الاعتماد على الهيمنة الاحتكارية. إنها قصة تطور مستمر من شركة كانت تسيطر على كل شيء إلى شركة تسعى للتكيف مع عالم يتغير باستمرار.