قصة واتساب

كيف بدأ واتساب – رحلة الصعود إلى القمة

في عالم التكنولوجيا الذي لا يتوقف عن الدوران، تتلألأ بعض القصص كالأساطير، لا لضخامة أبطالها بل لبساطة بدايتها ودرامية نهايتها. قصة واتساب ليست مجرد حكاية عن تطبيق مراسلة، بل هي ملحمة عن الأمل، والفشل، والإيمان بفكرة واحدة: التواصل يجب أن يكون بسيطاً، ومجانياً، وخالياً من الضوضاء. إنها قصة بدأت بهدوء شديد، وانتهت بصفقة هزت عرش وادي السيليكون.

إقرأ حول: قصة نشأت مايكروسوف والصراعات التي خاضتها

البداية المتواضعة واليأس

في وادٍ سحيق من وادي السيليكون، كان هناك رجلان يحملان في جعبتهما خبرة عقدين من العمل الشاق في شركة “ياهو”. لم يكونا مجرد زميلين، بل صديقين يجمعهما الشعور بالإرهاق من ثقافة الشركات الكبرى التي تضع الإعلانات والأرباح فوق كل شيء. كانا جان كوم وبراين أكتون. غادرا “ياهو” في عام 2007، وبعد فترة من الراحة ومحاولات فاشلة للالتحاق بفيسبوك، وجد كوم نفسه في حيرة من أمره. كان قد اشترى لتوه هاتف آيفون جديداً، وانبهر بإمكانيات متجر التطبيقات الوليدة. كانت لديه فكرة بسيطة: تطبيق يتيح للمستخدمين وضع “حالة” بجانب أسمائهم، تخبر أصدقاءهم بما يفعلونه في تلك اللحظة. “ما هو حالك؟” بالإنجليزية، “What’s Up?”، ومن هنا ولد الاسم WhatsApp.

في فبراير 2009، أسس كوم الشركة في ولاية كاليفورنيا، وبدأ المطور الروسي إيغور سولومين في العمل على الكود. كان التطبيق في بدايته كارثياً. كان ينهار باستمرار، وكان استخدامه محبطاً. وصل اليأس إلى جان كوم لدرجة أنه كاد أن يستسلم ويترك الفكرة نهائياً. اتصل بصديقه براين أكتون، وأخبره: “لم أعد أستطيع فعل هذا. سأبحث عن عمل جديد”.

لكن أكتون، الذي رأى بصيصاً من النور في تلك الفكرة، كان له رأي آخر. قال له جملته الشهيرة: “سيكون من الغباء ألا تجرب هذا. استمر فيه بضعة أشهر أخرى.”

كانت تلك الكلمات هي نقطة التحول. فجأة، في يونيو 2009، أضافت آبل خاصية “الإشعارات الفورية” (Push Notifications). هذه الميزة سمحت للتطبيق بأن يرسل تنبيهاً عندما يغير أحدهم حالته، مما يعني أنه يمكنك تلقي رسائل من أصدقائك. تحول التطبيق من مجرد أداة لإظهار الحالة إلى وسيلة للتواصل الفوري. لاحظ كوم وأكتون هذا التغير، وقررا أن يحولا واتساب إلى تطبيق مراسلة. لم تكن مجرد إضافة، بل كانت ولادة جديدة للتطبيق.

فلسفة “لا للإعلانات” والنمو الصامت

كانت فلسفة واتساب بسيطة وغير تقليدية: التركيز على المستخدم، وليس على الأرباح. كان شعار الشركة “لا للإعلانات! لا للألعاب! لا للحيل!” (No Ads! No Games! No Gimmicks!). في وقت كانت فيه تطبيقات المراسلة الأخرى تتقاضى رسوماً على الرسائل النصية (SMS) أو تغرق المستخدمين بالإعلانات، قدم واتساب تجربة نظيفة تماماً. لقد كان سريعاً، وموثوقاً، ويعتمد على رقم الهاتف كمعرف للمستخدم، مما ألغى الحاجة لإنشاء حسابات معقدة.

انفجر نمو التطبيق بشكل هائل، ليس بفضل الحملات التسويقية الضخمة، بل بفضل “النمو الفيروسي” و**”كلمة الفم”**. كان المستخدمون يكتشفون التطبيق، ويحبون بساطته، ثم يدعون أصدقاءهم لاستخدامه. كان الملايين ينضمون يومياً، خاصة في الأسواق الناشئة حيث كانت تكلفة الرسائل النصية باهظة. كانت الشركة تعمل بفريق صغير جداً، لا يتجاوز عدده بضع عشرات من الموظفين، وكانوا يرفضون بشدة فكرة جذب الإعلانات أو بيع بيانات المستخدمين. كان نموذجهم الاقتصادي الوحيد هو فرض رسوم اشتراك رمزية قدرها 0.99 دولار سنوياً، وهو ما اعتبره المستخدمون ثمناً زهيداً مقابل تجربة خالية من الإزعاج.

القلعة التي لا يمكن اختراقها

وصل واتساب إلى مئات الملايين من المستخدمين حول العالم، وبدأ يهدد عمالقة التكنولوجيا. كان مارك زوكربيرج، الرئيس التنفيذي لفيسبوك، يراقب هذا النمو المتصاعد بقلق. كان يدرك أن مستقبل التواصل يكمن في المراسلة الفورية عبر الهواتف، وأن فيسبوك، بمسنجر الخاص بها، كان متأخراً في هذا السباق. كانت واتساب القلعة التي لا يمكن تجاوزها أو محاربتها.

وفي عام 2014، اتخذ زوكربيرج قراره الجريء. لم يكن يريد منافسة واتساب، بل أراد الاستحواذ عليه. كان يرى في التطبيق ليس فقط وسيلة للتواصل، بل شبكة اجتماعية جديدة، أساسها رقم الهاتف، ومخاطرها أقل من فيسبوك. بدأ زوكربيرج مفاوضات سرية مع جان كوم وبراين أكتون.

كانت المفاوضات قصيرة ومباشرة، بأسلوب يعكس بساطة واتساب. كان كوم وأكتون متمسكين بمبادئهما: يجب أن يبقى واتساب مستقلاً، وخالياً من الإعلانات، وأن يظل تركيزه على المستخدم فقط. وافق زوكربيرج على كل تلك الشروط، مدركاً أن القيمة الحقيقية تكمن في القاعدة الجماهيرية الضخمة والفلسفة التي جذبتها.

الصفقة المذهلة ونهاية القصة

في فبراير 2014، تم الإعلان عن الصفقة التي صدمت العالم: استحواذ فيسبوك على واتساب مقابل 19 مليار دولار. كان المبلغ ضخماً لدرجة أنه فاق قيمة العديد من الشركات العملاقة في ذلك الوقت. ولكن اللحظة الأكثر رمزية في هذه القصة جاءت بعد ذلك.

عندما حان وقت توقيع العقود، اختار جان كوم مكاناً غير عادي على الإطلاق. ذهب مع براين أكتون إلى مكتب قديم في مدينة ماونتن فيو، تحديداً أمام باب مكتب المساعدة الاجتماعية الذي كان يزوره في طفولته للحصول على قسائم الطعام. هناك، على ذلك الباب، وقع كوم العقود التي جعلته مليارديراً. كانت هذه اللفتة بمثابة رسالة بليغة عن رحلته من الفقر إلى الثروة الهائلة، وعن إيمانه بأن البدايات المتواضعة يمكن أن تخلق أعظم الإمبراطوريات.

انتهت القصة هنا بالنسبة لجان كوم وبراين أكتون، لكن قصة واتساب استمرت. رغم الوعود الأولية، بدأ الصدام بين فلسفة واتساب القائمة على الخصوصية وفلسفة فيسبوك القائمة على الإعلانات. في نهاية المطاف، غادر المؤسسان الشركة، وأصبح واتساب جزءاً من عائلة فيسبوك (التي تغير اسمها لاحقاً إلى ميتا). لكن إرثهم لا يزال باقياً، فهو يذكرنا بأن أعظم الأفكار ليست بالضرورة الأكثر تعقيداً، بل هي تلك التي تلمس حاجة حقيقية في حياة الناس.